خطيب جمعة سومر : إن العلماءِ الربانيينَ تحملوا أوزارَ الأمةِ وعبئها بعد الغيبةِ الكبرى .



المركز الإعلامي – إعلام سومر

تطرق فضيلة الخطيب (الشيخ كاظم السعيدي) ، في خطبتة الجمعة ، السابع عشر من ربيع الثاني 1439هـ ، في المكتب الشرعي لسماحة المرجع المحقق (دام ظله) : إلى العلماءِ الربانيينَ والإلهيينَ الذين يملكون الدليلَ والأثرَ والحجةَ والبرهانَ تراهم وتشعرُ بأنفاسِهم وببصماتِهم في كل شاردةٍ وواردةٍ وما من حادثةٍ إلا ولهم فيها موقفٌ وبيانٌ لأنهم هدايةٌ للبشر وهم لطفٌ الهي، وكيف لا يكونونَ كذلك وهم تحملوا أوزارَ الأمةِ وعبئها بعد الغيبةِ الكبرى فالعلماءُ الفقهاءُ الربانيون هم حصونُ الإسلامِ، بهم يدافعُ اللهُ عن قيمِ السماءِ وبهم تُحفظ الشريعةُ وبهم يَهتدي العبادُ إلى الصراطِ المستقيمِ ، والعلماءُ الصادقونَ هم ركيزةُ الأرضِ وأوتادها، بهم تستقرُ الحياةِ، بل هم أوتادُ الحياةِ، وهم رسلُ اللهِ بعد انقطاعِ النبوةِ، فهم الامتدادُ في عصرنا لرسلِ السماءِ وهم دونَ سواهم مَنْ يُجسِدُ شخصيةَ الأنبياءِ، ولذلك حينما يُفقَد هذا العالمُ لا يمكنُ أن يُعوّضَ عنه إلا بعالمٍ مثلهِ يسيرُ على خطاهُ، فموتُ العالِمِ خَسارَةٌ لا تُعوضُ، وموتُ العالمِ هو الذي يستحقُ أن يَبكي عليه الباكون، أكثر من بكاءِ الأبِ على أبنهِ والأمِ على ابنِها، واللهُ سبحانَهُ يَحبُ ويرفعُ درجةَ مَنْ يبكي على فقْدِ العالِم، كما في الروايات عن أهلِ بيتِ النبوةِ عليهم السلام؛ لأنَّ العلقةَ ليست علقةً ماديةً إنما هي علقةُ قيمٍ لا تنقطعُ، فعلقة الإنسان بأبيه وأمهِ تنقطع يوم القيامةِ إلا إذا رُبطت بحبائل الإيمان، أما علاقة المؤمن بالعالِم الحقيقي لا تنقطعُ.
واشار الخطيب السعيدي في خطبته : يعيش العالم هذه الأيام ذكرى ميلاد نبيّ الله المسيح عيسى بن مريم الذي يُعدّ المسيحيون المنتسبون إليه أكبر كتلة في العالم، يليهم المسلمون، فهما أكبر كتلتين دينيتين على وجه الكرة الأرضية.
وقد احتفى القرآن الكريم بميلاد نبي الله عيسى حيث خصّص سورة باسم أمه (سورة مريم) تناول فيها تفاصيل ولادته، وكذلك في سورة (آل عمران)، وتكرر الحديث عن المسيح في أكثر من 25 موقعًا في القرآن الكريم. مما يؤسّس لأرضية جيّدة من العلاقة بين المسلمين والمسيحيين.
علاقات طيّبة بين المسيحيين والمسلمين
وذلك ما كان في بداية الإسلام، حيث استقبل النجاشي المسيحي ملك الحبشة المهاجرين من المسلمين الفارين من قمع المشركين في مكة، وآواهم ورفض محاولات قريش لإرجاعهم.
وكان قد هاجر إلى الحبشة من مكة عشرات من المسلمين في السنة الخامسة من البعثة بتشجيع من رسول الله ، حيث قال لهم: (لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإنّ بها ملكًا لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق حتى يجعل الله لكم فرجًا مما أنتم فيه).
فغضبت قريش حين علمت عن استقبال النجاشي للمهاجرين، وبعثت (عمرو بن العاص) و(عبدالله بن أبي ربيعة) لإقناع النجاشي بطرد المهاجرين المسلمين وإرجاعهم إلى مكة. وقالا للنجاشي: (أيّها الملك، إنه قد ضوى إلى بلدك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينك، وجاؤوا بدين جديد لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم، لتردهم إليهم، فهم أبصر بهم، وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه).
فاستدعى النجاشي مجموعة من المهاجرين يتقدّمهم جعفر بن أبي طالب وسأله: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا في ديني ولا في دين أحدٍ من هذه الملل؟ وبعد أن شرح جعفر للنجاشي طبيعة الرسالة الإسلامية، والقيم التي تحملها، قال النجاشي لجعفر: هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟ فقرأ عليه آيات من مطلع سورة مريم، التي تحدّثت عن مكانة مريم عند الله، وكيف حملت بعيسى وقصة ولادته، وعظمة شأنه، فتفاعل النجاشي مع ما سمع، وتأثر كثيرًا، حتى بكى وأخضلّت لحيته بالدموع، وبكى الأساقفة الحاضرون.
وبعد صمتٍ قصير ساد المجلس قال النجاشي: (إنّ هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة)[1].
وقد أشاد القرآن الكريم بهذا الموقف الإيجابي للمسيحيين تجاه المسلمين والدعوة الإسلامية يقول تعالى: وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ
لكن المعارك التي حصلت بعد ذلك فيما عرف بالفتوحات الإسلامية، وزحف الجيوش العربية على أوروبا، ثم ما حصل في عهد الاستعمار من زحف الأوربيين على البلاد العربية والإسلامية، وقيام الحروب الصليبية والتبشير المسيحي، كلّ ذلك أوجد شروخًا واسعة بين المسيحيين والمسلمين، وخلق أجواءً من العداء المتبادل.
وفي هذا العصر بالذات أصبحت الظروف أكثر ملاءمة لتطوير العلاقات بين المسلمين والمسيحيين، حيث يفترض أنّ الطرفين قد تجاوزا تأثيرات الحروب والمعارك التاريخية الماضية، وأصبحت هناك مؤسسات دولية ومواثيق تنظم العلاقة بين الدول والمجتمعات على أسس إنسانية حقوقية، وعلى معايير سياسية، تختلف عمّا كان سائدًا في عصر الدول الدينية، كما تداخلت المصالح بين الأمم والدول والمجتمعات، إذ تحوّل العالم إلى قرية واحدة، لا يستغني فيه طرف عن آخر.
واحتضنت المجتمعات المسيحية جاليات إسلامية كبيرة هاجرت من أوطانها إلى الغرب بحثًا عن فرص أفضل للحياة الكريمة، وأصبحت تتمتع بحريتها الدينية والسياسية، وتمارس دورها في الحياة العامة كجزء من تلك الدول والمجتمعات، وتبوأ بعض أبنائها الكفوئين مواقع قيادية متقدمة في السلطة السياسية والقضائية، وفي
.وتأتي ممارسات الحركات الإرهابية المنتسبة للإسلام كعامل أخطر وأسوأ في تعقيد العلاقة بين المسلمين والمسيحيين في هذا العصر.
حيث تستهدف الأبرياء من الرجال والنساء والأطفال، في الأسواق والمطارات ومحطّات القطار، كما تستهدف التجمعات الدينية المسيحية.
وما حدث للمسيحيين في العراق وسوريا وأماكن أخرى استهدفها الإرهابيون هذه الأحداث تخلق الآن أجواءً غير إيجابية تجاه المسلمين في العالم، وحصلت اعتداءات كثيرة على مساجد ومراكز إسلامية، وتعرّض كثير من المسلمين لمضايقات وإساءات في امريكا وأوروبا، وأصبح أيّ مظهر إسلامي قد يثير قلقًا واستفزازًا،
إنّ من مصلحة الإسلام والأمة إرساء علاقات سلام واحترام مع الأديان والأمم الأخرى، فذلك ينسجم مع مبادئه الإنسانية العادلة، ويتيح المجال لتعرف الآخرين على حقيقته وتعاليمه الجاذبة، ويصنع للأمة مكانة لائقة بين الأمم تحفظ مصالحها.
واختتم الشيخ السعيدي خطبته بالدعاء لله بتعجيل الفرج للإمام الحجة ابن الحسن (عليهما السلام).