بيان رقم (70): (موقف العقل والشرع الصواب من اتفاقية الانسحاب)

بيان رقم (70): (موقف العقل والشرع الصواب … من .. اتفاقية الانسحاب)

بيان رقم – 70 –

((موقف العقل والشرع الصواب من اتفاقية الانسحاب))

سماحة المرجع الديني السيد الحسني الصرخي (دام الله ظله الشريف)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

وبعد:

1- ما هو رأي سماحتكم بخصوص الاتفاقية الأمنية المُسمّاة باتفاقية الانسحاب بعدما أصدر الرئيس الاميركي قراره بسحب قواته من العراق؟

2- وما هو رأي سماحتكم بقضية التصويت للاتفاقية الذي قيل إنّه سيكون في الشهر السادس فما هو الموقف الشرعي في مثل هذه الحال أيّ ما هو موقف المرجعية الدينية المقدّسة تجاه الاتفاقية الأمنية والتصويت عليها؟

جزاكم الله خير جزاء المحسنين.

بسمه تعالى:

سبق وأن أعطينا الرأي في الاتفاقية الأمنية وهو المعبّر عن رأي وموقف أساتذتنا ((أدامهم الله وأبقاهم)) والمرجعية المقدَّسة بصورة عامة، وكان التأكيد على مصلحة العراق وشعبه بكلّ شرائحه وقومياته وطوائفه وأفراده، وأكّدنا على جانب التكافؤ بين أطراف الاتفاقية وأنَّ قوة الطرف العراقي تكمن في السعي الحقيقي وبكلّ جهد وطاقة وأسلوب لتحقيق المصالحة الحقيقية الصادقة الثابتة الدائمة وليست الكاذبة المرحلية الانتهازية الفاسدة القبيحة.

وإكرامًا للسائل الكريم أنبّه إلى بعض الأمور المتعلّقة بالموضوع:

الأول: اتفاقية الانسحاب تعني اتفاقية إبقاء وبقاء لقوات الاحتلال

وذلك لأنّه وبكلّ بساطة ووضوح لا يخفى على كلّ إنسان أنّه لو استحضر تصريحات رئيس دولة الاحتلال الأميركي قبيل التوقيع والتي أشار فيها إلى أنَّ المفاوض العراقي والمسؤولين العراقيين والعراق وشعب العراق بين خيارين لا ثالث لهما:

1- إمّا القبول بالاتفاقية.

2- أو إنّه سيسحب قواته فورًا من العراق.

إذًا هو هدّد بالانسحاب الفوري إذا لم يتم التوقيع على الاتفاقية.

وهذا يعني أنّ القضية محصورة بين أمرين:

إمّا الانسحاب الفوري،

وإمّا التوقيع وإبقاء وبقاء القوات المحتلة،

وقد وقع الاختيار على الموافقة والتوقيع وإبقاء وبقاء القوات.

إذًا هي اتفاقية إبقاء وبقاء لقوات الاحتلال وليست اتفاقية انسحاب.

الثاني: اتفاقية الانسحاب تعني اللغو وعدم الاتفاق

وذلك لأنَّ الفرض أنَّ الانسحاب حاصل وواقع على كلّ حال حسب تصريحات وتعهدات الرئيس المنتخب الجديد بسحب قواته من العراق وقد كرّر وأكّد على ذلك قبل انتخابه وبعد الانتخاب، إذًا توقيع اتفاقية الانسحاب هو من تحصيل الحاصل، وهذا لغو ومحال.

إذًا لو رجعنا إلى تلك الأيام يوم التوقيع وما سبقه فإنّه لم يبقَ حينئذ إلّا أيام قلائل حتى يستلم الرئيس الجديد مهامَّه فيعلن خطّة الانسحاب، فأيّ معنى وأيّ ثمرة تبقى وتترتّب على توقيع اتفاقية انسحاب (هذا لو سلّمنا أنّها اتفاقية انسحاب فعلًا)؟!!

الثالث: اتفاقية الانسحاب تعني أنَّ طرف الاحتلال هو صاحب الرأي والقرار

وذلك لواقع الحال في الخارج وعلى الأرض وحتى في نفس مواد وفقرات الاتفاقية ( والتي لا أريد الدخول في تفاصيلها الآن)،

وقد أثبتت الأيام صحّة الكلام حيث أعلن الرئيس الأميركي الجديد قبل أيام خطّة الانسحاب من طرف واحد فقط وفقط دون أيّ اعتبار للطرف الآخر في الاتفاق، فسمع العراقيون المسؤولون والسياسيون وكلّ العراقيين سمعوا بالقرار من الفضائيات ووكالات الأنباء، دون تشكيل أيّ لجان مشتركة لبحث ذلك ووضع الآليات والترتيبات لتخفيض عدد القوات وتحديد مقدار التخفيض وأوقاته المناسبة، وابتدائه وكيفيته، وكأنَّ القضية ترجع إلى ما كنّا نسمع به من قول وشعار ومنهج (نفّذ ثم ناقش) بل إلى أكثر من ذلك وهو (نفّذ ولا تناقش) بل إلى أكثر منه وهو (نفّذ ولا تناقش بل عليك ادّعاء وافتراء واختلاق كلّ المبرّرات والمسوّغات لخداع الناس).

الرابع: اتفاقية الانسحاب تعني استغفال الشعب واستخفافه وضياعه

وذلك لأنّ الكلام وكلّ الكلام وأساسه ونقاشه كان في الجانب العسكري والسيطرة والاحتلال العسكري، لكن بقي الباب وبقيت أبواب باقي أصناف الاحتلال وأنواعه الاقتصادي والسياسي والثقافي والفكري وغيرها من احتلالات وبقي الباب مفتوحًا بل بقي الأمر مجهولًا عن الثمن الذي يجب على العراق الحبيب وشعبه أن يدفعه مقابل هذه الاتفاقية وبقاء القوات؟!!

فما هي الأجور والأثمان المادية والمعنوية التي سيدفعها العراق وشعبه من ثرواته وأرواحه وكرامته وثقافته ومبادئه وإسلامه، والى أي فترة زمنية سيستمر هذا؟!!

الخامس: إتفاقية الانسحاب تعني تعدّد الاتفاقيات واختلاف التفسيرات وتناقضاتها

فقد سمع الجميع ورأى أثناء تمرير الاتفاقية أنَّ نُسَخًًا عديدة صدرت وَوُزّعت، فبعض يقول هذه الأوّلية والأخرى معدّلة وتلك النهائية ويختلف معه كليًا غيره في القول والادّعاء.

وبعد الموافقة والتمرير ظهرت النسخة، لكنها بنسختين عربية وأجنبية، ولا يخفى عليكم ماذا يحصل في أيّ ترجمة لمقال وكيف يحصل الأختلاف، مع الأخذ بنظر الاعتبار أنَّ الاتفاقية تَعتَبِر النسختين نافذتين ويحقّ لأيّ طرف الرجوع لأيّ منهما.

والمتابع للأخبار والآراء السياسية والإعلامية والتحليلية يتيقّن الاختلاف الكبير والتناقض بين تفسيرات الكثير من مواد الاتفاقية وفقراتها، وتتّضح المسألة وتتجلّى عند ملاحظة التفسيرات المتناقضة بين السياسيين والمسؤولين في تفسير فقرات وبنود الدستور الذي كتبوه بأنفسهم واتفقوا على تمريره وهو بنسخة واحدة عربية وليس بنسختين وقد كتبته ومرّرته أطراف المفروض أنّها كلّها عراقية، فكيف الحال باتفاقية بنسختين وكُتبت ومُرّرت باشتراك طرف قوي وفاعل ورئيس وهو قوة احتلال متغطرس والمعروف عنه والثابت فيه أنّه بنفسه عن قصد وعمد ينتخب ويختار ويسجّل الألفاظ التي تفتح له بابًا وأبوابًا ما يشتهي من تفسيرات.

السادس: اتفاقية الانسحاب تعني إخفاءها واختفاءها إلى ما بعد الموافقة والتمرير.

وذلك لأنّنا بينّا في الأمر السابق نوعًا من أنواع الإخفاء والتمويه وذلك بإصدار وتوزيع عدّة نسخ مختلفة وكُلّها بالعربية، والإخفاء الآخر وهو إخفاء جليّ فاحش حيث إنَّ النسخة الأجنبية وكما أعلن مسؤولو الاحتلال إنَّهم لم ولن يُظهروها ولم ينشروها إلّا بعد أن تتمّ الموافقة والتمرير للاتفاقية من قبل المسؤولين العراقيين، وهم أنفسهم الأميركان برّروا هذا الإخفاء بأنَّ إعلانها ونشرها سيتسبب في طرح وتحقّق تفسيرات عديدة مختلفة سوف يكون لها تأثير سلبي على الاتفاقية وتمريرها، المؤدّي إلى عدم الموافقة وعدم التمرير.

السابع: اتفاقية الانسحاب تعني الانتهازية والمصالح الشخصية الضيقة والأنانية

فالعراق ومصيره والشعب العراقي ومصالحه هي آخر ما يفكر فيه وبه كلّ أو جلّ السياسيين والمسؤولين الحاليين، وأكتفي بذكر حالة مثيرة للكثير من الاستفهامات عند كلّ إنسان عاقل،

فالطرف الرئيس الذي رفض الاتفاقية لم يرفضها لنفسها لا كلّها ولا بعضها بل يريد انتهاز الفرصة والحصول على بعض المكاسب الضيّقة الشخصية والحزبية التي لا علاقة لها بالاتفاقية وبنودها وفقراتها، بمعنى: إنّكم إنْ أعطيتموني كذا وكذا فإنّي سأوافق على الاتفاقية وأصوّت لها وأمرّرها وإلّا فلا أوافق!!!

وأمّا الطرف الرئيس الموافق على الاتفاقية والمريد تمريرها على كلّ حال فالموقف منه في غاية الغرابة فهو يهدّد الطرف الرافض بأنّه إمّا أن يوافق معه ويمرّرها وإلّا فإنّه سيطلب انسحاب قوات الاحتلال فورًا!!!

سبحان الله!! كيف تجمع بين إرادته الاتفاقية وتمريرها وبين طلبه الانسحاب الفوري لقوات الاحتلال؟!!

فبين هذا وذاك على العراق وشعبه كُتب الضياع والهلاك.

وعودة إلى الطرف الأول الرافض، فإنَّ الجميع يعلم أنَّ هؤلاء أكثر من غيرهم رغبة وإرادة بل وتمسكًا بالاحتلال وبقائه لكنها الانتهازية والمنافع والمصالح الشخصية الضيقة الدنيوية.

الثامن: اتفاقية الانسحاب تعني استمرار قوافل العاطلين عن العمل

وذلك لأنَّ الجانب غير الظاهر من الاتفاقية لا يقلّ خطورة عن الجانب العسكري لجيش الاحتلال بل إنّه أكثر خطورة وأعظم فسادًا، وأقصد الشركات الأمنية وعناصرها المرادفة والمرافقة لقوات الاحتلال والتي تفوق بالعُدّة والعدد والمَؤونة والأجور وبأضعاف عُدّة وعدد ومؤونة وأجور جيش الاحتلال،

وهنا يأتي سؤال وسؤال وأكثر من سؤال: أليس الأَوْلى بل المتعيّن والواجب والإلزام على المسؤولين أن يوفّروا فرص العمل لمئات الآلاف من العاطلين عن العمل من خرّيجين وغيرهم؟! ولماذا لا يُستقطب أبناء العراق الوطنيون الشرفاء ممَّن يرغب فعلًا في خدمة العراق بالعمل في المؤسسات الأمنية والعسكرية العراقية؟!! وعلى هذا نفرّع ونقول: لماذا لا نفتح الباب والمجال لذوي الاختصاصات الأخرى ممَّن التحق بقوات الجيش والشرطة من أجل المعيشة ولقمة العيش فمثل هؤلاء الأبناء الأعزّاء نوفّر لهم فرص العمل وكلّ حسب اختصاصه، وبهذا نكون قد وضعنا كلّ شيء في موضعه فتحصل الفائدة وتترتَّب الثمرة فيكون الخير والصلاح للعراق وشعبه العزيز، لكن الاتفاقية وثمنها الكبير يتنافى مع تطبيق ذاك الصلاح والإصلاح.

التاسع: اتفاقية الانسحاب تعني المكر والخداع والكذب والكيد والقتل والإرهاب

وذلك لأنَّ القرار إن كان في تقليل قوات أو انسحاب فتأتي التصريحات من هنا ومن هناك، إنَّ الأجهزة الأمنية العراقية الجيش والشرطة الأعزّاء كاملة وتامة وقوية وقادرة على الحفاظ على النظام وتحقيق الأمن والاستقرار، أمّا إذا كان القرار في إبقاء وبقاء قوات الاحتلال فتأتي التصريحات من هنا وهناك مناقضة لما ذكر أعلاه فتكون الأجهزة الأمنية ناشئة وضعيفة وتحتاج إلى تدريب ودعم وإسناد قوى الاحتلال، بل لا بدّ من خرق الأمن بفعل وتحقيق جرائم قتل هنا وإرهاب هناك من أجل تبرير التمديد والإبقاء والبقاء.

العاشر: اتفاقية الانسحاب تعني تدخل الدول حتى غير دول الجوار

وذلك لأنَّ الاتفاقية تشير وبوضوح أنَّ قوات الاحتلال لا تستخدم العراق والأراضي العراقية كمنطلق لضرب دول أخرى ومنها دول الجوار إلّا في حالات الدفاع عن النفس،

لكن يبقى الكلام وكلّ الكلام في تفسير الدفاع عن النفس، ولا أدري متى كانت أميركا وقوى الاحتلال معتدية وغير مدافعة عن نفسها حسب نظرها ونظر الأشخاص والإعلام والدول والمنظمات والمؤسسات التي تحت تسلّطها؟

فمثلًا وبكلّ تأكيد فإنّهم ادّعوا ويدّعون أنّهم لم يقطعوا تلك المسافات ولم يحتلّوا العراق ويدمّروه ويفتكوا بشعبه المظلوم إلّا من أجل الدفاع عن النفس وحماية وصيانة الأمن القومي الأميركي وكذا باقي دول الاحتلال، إذن فكلّ ما يفعله الاحتلال هو دفاع عن النفس ولا بدّ أن تقرّ كلّ الأعراف والأديان والقوانين بهذا الشعار رغمًا عنها وإلّا فستكون في خانة الإرهاب وتلصَق بها عشرات ومئات الاتهامات والافتراءات والأكاذيب فتُنشر في قائمة المطلوبين والقائمة السوداء!!!

نعم، إنّها حقيقة سياسة الغاب وشياطين الإنس والجان.

الحادي عشر: اتفاقية الانسحاب تعني التصويت لها بالإيجاب

وذلك لأنَّ واقع الحال يثبت أنَّ ما يريده الاحتلال ومؤيدوه يقع دون محال حتى لو سلكوا كلّ مكر واحتيال وتزييف وخداع،

فما ذكر في السؤال من كلام عن التصويت للاتفاقية فيه فرضان:

الأول: إنَّه من السالبة بانتفاء موضوعها، حيث إنَّ الأميركان قد أبطلوا الاتفاقية بإعلانهم الانسحاب المزعوم، فأيّ كلام وأيّ استفتاء وتصويت على اتفاقية الانسحاب؟!!

الثاني: على فرض التلاعب بالألفاظ وانتهاج أساليب إشغال الناس وإلهائها من أجل تمرير وكسب المنح والمخصصات والعقود والمقاولات ونحوها في هذا المجال ولتمرير أشياء أخر وغايات فيعمدون إلى إجراء التصويت والاستفتاء،

وهنا وكما هو المعتاد، فإنَّ النتيجة معروفة ومحسومة وهي مطابقة لما يريده الاحتلال ومعه أصحاب الرأي والقرار، وللاختصار أكتفي بالإشارة إلى منشأ ما هو مشاع الآن ومتيقّن في الشارع وعموم المجتمع في العراق، وأقصد قضية عدم نزاهة وعدم مصداقية وعدم إنصاف وعدالة الجهة والمفوضية المشرفة، حيث إنَّ المجتمع كلّه سمع ورأى كيف أنَّ الكيانات المشتركة في الانتخابات الفردية وغيرها كلّها حتى التي فازت ظاهرًا في انتخابات مجالس المحافظات، نعم، كلّها أعلنت في هذه المحافظة أو تلك أو في أكثر من مكان وكرّر الكلام والاتهام منها نحو تلك الجهة المشرفة وعدم نزاهتها واستقلاليتها مع الإعلان عن وقوع الخرق والتزوير في نفس عملية الانتخاب،

فإذا كان هذا هو واقع الوصف والحال فكيف نتصوّر ونحتمل أن يكون التصويت ونتائجه على خلاف ما يريده أصحاب القرار؟!!!

فلا مناص من جهة مستقلة ظاهرًا وواقعًا صدقًا وعدلًا قولًا وفعلًا تنظّم وتشرف وتراقب عمليات التصويت والانتخاب في كلّ مفاصلها ومراحلها دون استثناء فحينئذ يمكن القول: إنَّ النتائج معبّرة عن رأي الجماهير عمومًا وعلى نحو المصداقية والواقعية وحسب ظاهر الحال.

الثاني عشر: اتفاقية الانسحاب تعني لزوم ووجوب الوعي الفكري والتفقّه السياسي

وذلك لأنّه مع عدم الوعي والتفقّه السياسي فإنّه ستمرّ وستجري علينا أبْدَه البديهيات دون أن ندرك الخطورة العظمى المترتِّبة عليها في الحاضر والمستقبل فلا ندرك المصير الخطير المظلم الساحق الماحق الذي حلّ ويحلّ بالعراق وعلى شعب العراق، والذي صارت أصوله وجذوره تمتدّ وتتعمّق في كلّ اتجاه فالإرهاب الأهول والأكبر المتجسّد بالفساد وبكلّ أشكاله وأصنافه اجتاح وأغرق كلّ نواحي ومناحي الحياة في العراق الحبيب، فأين الموارد المائية وثمارها وأين الزراعة وثروات الحيوان، وأين السياحة الطبيعية وسياحة الآثار وأين السياحة الدينية وموارد العتبات المقدسات، وأين الشركات والمصانع والبنى التحتية والبناء والإعمار، وأين الغاز والفوسفات والكبريت والذهب والزجاج، وأين الثروات وأين نفط العراق، وأين التراث والآثار، وأين الفكر العراقي النيّر القدّاح وأين العلماء، وأين التاريخ والأجداد والأمجاد، وأين حقوقنا وأين حقوق الأجيال؟

ومع القليل من الوعي والتفقّه السياسي والتفكير ندرك أنّنا نسير من خطر إلى أخطار ومن هول إلى أهوال ومن كارثة إلى كوارث عضال،

فأين المثقفون والخريجون والأساتذة والطلاب، أين المفكرون والكتاب، أين الحقوقيون والأطباء والمهندسون وكلّ الموظفين الأحباب، أين قادة المجتمع والعلماء، أين ذوو الحكمة والاختصاص، أين العراقيون الكرماء الأصلاء، أين الأخيار وكلّ الوطنيين النساء والرجال، عليكم التثقيف والأمر والنهي والنصح والإرشاد،

هذا واجبكم، هذه مسؤوليتكم حسب الشرع والعقل والأخلاق، أنتم من اشتغلت ذممهم وتقع عليكم كلّ التَّبِعات وأنتم من ستحلّ عليهم لعنة التاريخ والأجيال وسيشملكم غضب الإله الواحد العزيز القاهر الجبار.

الثالث عشر: اتفاقية الانسحاب تعني الاكتفاء بمورد واحد وتطبيق واضح بديهي شمله الغفلة وعدم الانتباه

لنسأل أنفسنا، كلّ إنسان مهما كان مستواه الفكري الذهني، ليسأل نفسه كيف فاته ((مثلًا)) ما ورد في اتفاقية الانسحاب، وأكتفي بذكر مورد واحد للاختصار:

حيث ورد في اتفاقية الانسحاب:

[[المادة الثانية عشرة / الولاية القضائية:

  1. للعراق الحقّ الأوّلي لممارسة الولاية القضائية على أفراد قوات الولايات المتحدة وأفراد العنصر المدني بشأن الجنايات الجسيمة المتعمدة وطبقًا للفقرة (8) حين ترتكب تلك الجرائم خارج المنشآت والساحات المتفق عليها وخارج حالة الواجب]].

والآن يمكن أن نتيقّن أنَّ إثارة هذه القضية وتصعيدها في الإعلام الذي لا ينفك أن يكون تابعًا وعميلًا لهذه الجهة أو تلك، فبالرغم من تنافر وتناقض الجهات لكن الجميع سار في الاتجاه الذي خطّط له الاحتلال من أجل الإشغال عما هو أخطر وأهول وأفتك، ومع كلّ ما قيل وذُكر وسُجّل من نقاش وحوار، ورفض وقبول من طرف الاحتلال وغيره،.. أقول مع كلّ ذلك فالنتيجة واحدة، هي هي.

وما حصل هو فقط وفقط تلاعب في الألفاظ، فيكون مكشوفًا ومعروفًا ومتيقّنًا مع أدنى تفكير والتفات، فالنتيجة واحدة وهي: لا سلطة فوق سلطة الاحتلال.

إذن لنسمح لأنفسنا بقليل من التفكير والالتفات إلى تلك العبارة والواردة في الاتفاقية، فماذا نجد؟ وماهي الشروط التي يجب تحقّقها كي يمكن للعراق والعراقيين ممارسة الولاية القضائية على المحتلين؟ وهل يحتمل ولو الاحتمال الضعيف جدًا كالواحد بالمئة أو الواحد بالألف أو الواحد بالمليون أن تتوفّر وتتحقّق تلك الشروط؟

والجواب واضح وجليّ لا يخفى على كلّ عاقل سوي، وهو: كلا وكلا وألف كلا! لا يوجد أيّ احتمال لتحقّق الشروط، فلا يبقى أيّ معنى لورود وذِكر الولاية والسلطة القضائية في هذه الفقرة من هذه المادة، ولا ذِكرها في أيّ مادة من مواد الاتفاقية، لأنّها لا تطبيق لها أصلًا في واقع الحال، وأرجو أن يكون القارئ النبيه التفتَ إلى الشروط وشخّصها وهي ترجع إلى أربعة شروط:

  1. أن تكون الجناية جسيمة ((ولم يذكر معنى الجسيمة)).

  2. أن تكون الجناية متعمدة ((ولم يذكر معنى العمد وحدوده ومن يشخّصه)).

  3. أن تكون الجناية خارج المنشآت والساحات المتفق عليها ((وهذا يشمل كلّ اتفاق حتى لو كان حين الجناية بل حتى بعدها)).

  4. أن تكون الجناية خارج حالة الواجب.

لاحظ أنَّ كلّ شرط من الشروط فيه باب وأبواب للنقاش والتفسير والتأويلات، وفرض المحال ليس بمحال، فلنفرض أنّه حصل الاتفاق على تفسير وتأويل وتطبيق وتحقّق الشروط الثلاثة الأولى، أي نفرض ثبوت أنّ الجناية جسيمة متعمدة وخارج المنشآت والساحات المتفق عليها،

لكن يبقى الشرط الرابع لا يمكن تصوّره وفرضه حتى على نحو الفرض المحال في هذا المقام والمقال، لأنّه من السالبة بانتفاء موضوعها، حيث إنَّ جنود الاحتلال وكلّ الاحتلال لم يقطع تلك المسافات ويعبر البحار من أجل اللعب واللهو والتنزّه والسياحة والاستجمام، بل هم يقولون ويعتقدون وأكثرهم يصدّقون أنّهم خرجوا ويخرجون في واجب على كلّ حال بل هو عندهم واجب وطني وأخلاقي وديني مقدّس، وهل قرأ أحدكم أو سمع في يوم من الأيام أنَّ أحد الذين قُتلوا من قوات الاحتلال لم يُلف نعشه بعلم دولة الاحتلال ولم يُعتبر من شهداء الواجب والوطن والأخلاق؟!

فهم دائمًا في واجب لأنّهم على الأقلّ يدّعون أنّهم يدافعون عن وطنهم وشعبهم وأمنهم الوطني، وعلى هذا الأساس فجرائم وقبائح كجرائم معتقل أبي غريب تُرتكب وتُرتكب ولا عقاب لأنّهم في الواجب، وقبائح انتهاك الأعراض ستتكرر وتكرّر بدون أيّ حساب لأنّهم في الواجب، وكذا كلّ قبيح وفساد يرتكبه الاحتلال ويعتدي به على القرآن والمقدَّسات والأرواح في العراق وعلى شعب العراق، سوف لا ينالهم أي حساب ولا عقاب لأنّه لا ولاية ولا سلطة قضائية عراقية عليهم لأنّهم في الواجب فينتفي الشرط الرابع من شروط ولاية القضاء!!!

فأيّ كلام عن سلطة قضائية على قوات أمريكا والاحتلال؟!!

الرابع عشر: اتفاقية الانسحاب تعني عدم رضا الجهة الشرعية وعدم رضا الله العزيز الجبار

وذلك لأنّه بعد الذي ذكرناه سابقًا وبعد الأمور الكثيرة الخطيرة التي لم تُذكَر فإنَّ الصورة صارت واضحة وجليّة عند كلّ إنسان عاقل، وأقصد أسباب ومبرّرات عدم الرضا الكامل للجهة الشرعية عن العملية السياسية ومنها اتفاقية الانسحاب التي تمثل أهم وأخطر ترشيحات ونتائج العملية السياسية، فمن المعلوم أنَّ الموافقة والإمضاء على الاتفاقية كان في الشهر الأخير من سنة ( 2008م ) بينما تصريح الجهة الشرعية خصوصًا أساتذتي المراجع العظام الكرام كان في نهاية الشهر الأول من (سنة 2009م) فعدم الرضا يشمل هذه الاتفاقية المزعومة، والأسباب صارت واضحة لا تخفى على كل نبيه، ومن هنا أردنا أن نسجل ونوثق هذا الموقف الوطني الإسلامي الرسالي الأخلاقي الإنساني للمرجعية الدينية المقدّسة لكي نقطع أيّ لسان كذب وإفك وافتراء ونفاق ينسب للمرجعية ما لم تقله ولا تتبنّاه، فلا نريد تكرار ما فعلوه لسنين طوال، حتى تبيّن الخيط الأبيض من الفجر والصدق فصرّحت المرجعية الشريفة وبكلّ وضوح أنّها غير راضية عن العملية السياسية وما ترشح ويترشح عنها.

الخامس عشر: عِظَة وقرآن ومِسك خِتام

بعد ما بينّاه في الأمر السابق والذي قبله وبعد كلّ الكلام الذي قلناه فقد وصلنا إلى مِسك الخِتام في معاني القرآن وقوانينه الخالدة العِظام، فأقول:

هل تيقّنتم أبنائي وأعزّائي وأحبابي كيف أنَّ أبْدَهَ البديهيات كانت قد مرّت علينا بل مرّروها علينا ونحن في غفلة وجهل وانشغال؟

فإذا فاتنا البديهي والضروري الواضح البيان فكيف في غيره من أمور وأهوال وأخطار ليست من البديهيات؟ وأكرّر وأكرّر لا بدّ أن يتحمل الجميع مسؤوليته التاريخية الشرعية الأخلاقية فيتفقّه سياسيًا ويرشد غيره ويفقّهه وينصر شعبه المظلوم ووطنه الحبيب وينصر العلم والأخلاق والإسلام والإنسانية جمعاء، وليكن الجميع مصداقًا للآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وليكن الجميع من غير الظالمين والممسوخين الذين لم ينهوا عن المنكر والذين لم ينتهوا عن فعل المنكر، فلنكن عباد الله ننهى عن المنكر معذرة إلى الله تعالى ولعلّهم ينتهون ويتقون،

قال سبحانه وتعالى: ((وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ *فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ * فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ)) الأعراف 164-166.

الصرخي الحسني

20 ربيع الأول 1430هـ

18/ أذار/2009م